كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا هو المقصود الذي وُطّىء بالآيتين قبله، ولذلك أسهب الكلام بعده بتفاصيل التشريع فيه.
وعطفت هاته الجملة على اللتين قبلها لاشتراك ثلاثتها في أنها نفت مزاعم لا حقائق لها.
والقول في المراد من قوله: {ما جَعَل} كالقول في نظيره من قوله: {وما جَعَل أزواجكم اللاّء تظهرون منهن أمهاتكم}.
والمعنى: أنكم تنسبون الأدعياء أبناءً فتقولون للدعيّ: هو ابن فلان، للذي تبناه، وتجعلون له جميع ما للأبناء.
والأدعياء: جمع دَعيّ بوزن فَعيل بمعنى مفعول مشتقًا من مادة الادّعاء، والادّعاء: زعم الزاعم الشيء حقًا له من مال أو نسب أو نحو ذلك بصدق أو كذب، وغلب وصف الدعيّ على المدّعي أنه ابن لمن يُتحقق أنه ليس أبًا له؛ فمن ادعى أنه ابن لمن يحتمل أنه أب له فذلك هو اللحيق أو المستلْحق، فالدعي لم يجعله الله ابنًا لمن ادّعاه للعلم بأنه ليس أبًا له، وأما المستلحَق فقد جعله الله ابنًا لمن استلحقه بحكم استلحاقه مع إمكان أبوته له.
وجُمع على أفْعلاء لأنه معتل اللام فلا يجمع على فَعْلَى، والأصح أن أفْعلاَء يطّرد في جمْع فعيل المعتل اللام سواء كان بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول.
نزلت هذه الآية في إبطال التبني، أي: إبطال ترتيب آثار البنوة الحقيقية من الإرث، وتحريم القرابة، وتحريم الصهر، وكانوا في الجاهلية يجعلون للمتبنَّى أحكام البنوة كلها، وكان من أشهر المتبنَيْنَ في عهد الجاهلية زيدُ بن حارثة تبناه النبي صلى الله عليه وسلم وعامر بن ربيعة تبناه الخطاب أبو عُمر بن الخطاب، وسالم تبناه أبو حذيفة، والمقدادُ بن عمرو تبناه الأسودُ بن عبد يغوث، فكان كل واحد من هؤلاء الأربعة يدعى ابنًا للذي تبنّاه.
وزيد بن حارثة الذي نزلت الآيةُ في شأنه كان غريبًا من بني كَلْب من وبَرة، من أهل الشام، وكان أبوه حارثة توفي وترك ابنيه جبلة وزيدًا فبقيا في حجر جدهما، ثم جاء عماهما فطلبا من الجدّ كفالتهما فأعطاهما جبلة وبَقي زيد عنده فأغارت على الحي خيل من تهامة فأصابت زيدًا فأخذ جدّه يبحث عن مصيره، وقال أبياتًا منها:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعلْ ** أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل

وأنه علم أن زيدًا بمكة وأن الذين سَبوه باعوه بمكة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خُويلد زوج النبي صلى الله عليه وسلم فوهبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم فأقام عنده زمنًا ثم جاء جده وعمه يرغبان في فدائه فأبى الفداء واختار البقاء على الرق عند النبي صلى الله عليه وسلم فحينئذ أشهد النبي قريشًا أن زيدًا ابنه يرث أحدهما الآخر فرضي أبوه وعمه وانصرفا فأصبح يُدعَى: زيد بن محمد، وذلك قبل البعثة.
وقتل زيد في غزوة مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة.
{ذَلكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدى السَّبيل}.
استئناف اعتراضي بين التمهيد والمقصود من التشريع وهو فذلكة كما تقدم من الجمل الثلاث التي نفت جعلهم ما ليس بواقع واقعًا، ولذلك فصلت الجملة لأنها تتنزل منزلة البيان بالتحصيل لما قبلها.
والإشارة إلى مذكور ضمنًا من الكلام المتقدم، وهو ما نفي أن يكون الله جعله من وجود قلبين لرجل، ومن كون الزوجة المظاهَر منها أُمًّا لمن ظاهر منها، ومن كون الأدعياء أبناء للذين تبنوهم.
وإذ قد كانت تلك المنفيات الثلاثة ناشئة عن أقوال قالوها صح الإخبار عن الأمور المشار إليها بأنها أقوال باعتبار أن المراد أنها أقوال فحسب ليس لمدلولاتها حقائق خارجية تطابقها كما تطابق النسَب الكلامية الصادقة النسبَ الخارجية، وإلاّ فلاَ جدوى في الإخبار عن تلك المقالات بأنها قول بالأفواه.
ولإفادة هذا المعنى قيّد بقوله: {بأفواهكم} فإنه من المعلوم أن القول إنما هو بالأفواه فكان ذكر {بأفواهكم} مع العلم به مشيرًا إلى أنه قول لا تتجاوز دلالته الأفواه إلى الواقع ونفس الأمر فليس له من أنواع الوجود إلا الوجودُ في اللسان والوجودُ في الأذهان دون الوجود في العيان، ونظير هذا قوله تعالى: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100] أي: لا تتجاوز ذلك الحد، أي: لا يتحقق مضمونها في الخارج وهو الإرجاع إلى الدنيا في قول الكافر: {رب ارجعون لَعَلّيَ أعملُ صالحًا فيما تركت} [المؤمنون: 99 100]، فعلم من تقييده {بأفواهكم} أنه قول كاذب لا يطابق الواقع وزاده تصريحًا بقوله: {والله يقول الحق} فأومأ إلى أن قولهم ذلك قول كاذب.
ولهذا عطفت عليه جملة {والله يقول الحق} لأنه داخل في الفذلكة لما تقدم من قوله: {ما جعل الله}. إلخ.
فمعنى كونها أقوالًا: أن ناسًا يقولون: جميل له قلبان، وناسًا يقولون لأزواجهم: أنت كظهر أمي، وناسًا يقولون للدعي: فلان ابن فلان، يريدون مَن تبناه.
وانتصب {الحقَ} على أنه صفة لمصدر محذوف مفعول به ل {يقول} تقديره: الكلام الحق، لأن فعل القول لا ينصب إلا الجمل أو ما هو في معنى الجملة نحو: {إنها كلمةٌ هو قائلها} [المؤمنون: 100]، فالهاء المضاف إليها قائل عائدة إلى {كلمة} وهي مفعول أضيف إليها.
وفي الإخبار عن اسم الجلالة وضميره بالمسندَيْن الفعليَيْن إفادة قصر القلب، أي: هو يقول الحق لا الذين وضعوا لكم تلك المزاعم، وهو يهدي السبيل لا الذين أضلوا الناس بالأوهام.
ولما كان الفعلان متعديين استفيد من قصرهما قصرُ معموليهما بالقرينة، ثم لما كان قول الله في المواضع الثلاثة هو الحق والسبيل كان كناية عن كون ضده باطلًا ومجهلة.
فالمعنى: وهم لا يقولون الحق ولا يهدون السبيل.
و{السبيل} الطريق السابلة الواضحة أي: الواضح أنها مطروقة فهي مأمونة الإبلاغ إلى غاية السائر فيها.
وإذا تقرر أن تلك المزاعم الثلاثة لا تعدو أن تكون ألفاظًا ساذجة لا تحقق لمدلولاتها في الخارج اقتضى ذلك انتفاء الأمرين اللذين جعلا توطئة وتمهيدًا للمقصود وانتفاء الأمر الثالث المقصود وهو التبني فاشترك التمهيد والمقصود في انتفاء الحقية وهو أتم في التسوية بين المقصود والتمهيد.
وهذا كله زيادة تحريض على تلقي أمر الله بالقبول والامتثال ونبذ ما خالفه.
{ادْعُوهُمْ لآبَائهمْ هُوَ أَقْسَطُ عنْدَ اللَّه} استئناف بالشروع في المقصود من التشريع لإبطال التبنّي وتفصيل لما يحق أن يجريه المسلمون في شأنه.
وهذا الأمر إيجاب أبطل به ادعاء المتبني متبناه ابنًا له.
والمراد بالدعاء النسب.
والمراد من دعوتهم بآبائهم ترتب آثار ذلك وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم.
واللام في {لآبائهم} لام الانتساب، وأصلها لام الاستحقاق.
يقال: فلان لفلان، أي: هو ابنه، أي: ينتسب له، ومنه قولهم: فلان لرَشْدَةٍ وفلان لغَيَّةٍ، أي: نسبَه لها، أي: من نكاح أو من زنا، وقال النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ** وقبر بصيداء الذي عند حارب

أي: من أبناء صاحبي القبرين.
وقال علقمة بن عبد يمدح الملك الحارث:
فلست لأنْسي ولكن لمَلاك ** تنزل من جو السماء يصوب

وفي حديث أبي قتادة: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملًا أمَامة ابنة بنته زينبَ ولأبي العاص بن ربيعة فكانت اللامُ مغنية عن أن يقول وابنة أبي العاص.
وضمير {هو أقسط عند الله} عائد إلى المصدر المفهوم من فعل {ادعوهم لآبائهم} أي: الدعاء للآباء.
وجملة {هو أقسط} استئناف بياني كأنَّ سائلًا قال: لماذا لا ندعوهم للذين تبنوهم؟ فأجيب ببيان أن ذلك القسط فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي: هو قسط كامل وغيره جورٌ على الآباء الحق والأدعياء، لأن فيه إضاعة أنسابهم الحق.
والغرض من هذا الاستئناف تقرير ما دل عليه قوله: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4] لتُعلم عناية الله تعالى بإبطال أحكام الجاهلية في التبنّي، ولتطمئن نفوس المسلمين من المتبنين والأدعياء ومن يتعلق بهم بقبول هذا التشريع الذي يشق عليهم إذ ينزع منهم إلفًا ألفوه.
ولهذا المعنى الدقيق فرع عليه قوله: {فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم} فجَمَع فيه تأكيدًا للتشريع بعدم التساهل في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء، وتأنيسًا للناس أن يعتاضوا عن ذلك الانتساب المكذوب اتصالًا حقًا لا يفوت به ما في الانتساب القديم من الصلة، ويتجافى به عما فيه من المفسدة فصاروا يدعون سالمًا متبنى أبي حذيفة: سالمًا مولى أبي حذيفة، وغيرَه، ولم يشذ عن ذلك إلا قول الناس للمقداد بن عمرو: المقداد بن الأسود، نسبة للأسود بن عبد يغوث الذي كان قد تبنّاه في الجاهلية كما تقدم.
قال القرطبي: لما نزلت هذه الآية قال المقدادُ: أنا المقداد بن عمرو، ومع ذلك بقي الإطلاق عليه ولم يسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلقَ ذلك عليه ولو كان متعمدًا. اهـ.
وفي قول القرطبي: ولو كان متعمدًا، نظر، إذ لا تمكن معرفة تعمد من يُطلق ذلك عليه.
ولعله جرى على ألسنة الناس المقدادُ بن الأسود فكان داخلًا في قوله تعالى: {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به} لأن ما جرى على الألسنة مظنة النسيان، والمؤاخذة بالنسيان مرفوعة.
وارتفاع {إخوانُكم} على الإخبار عن مبتدأ محذوف هو ضمير الأدعياء، أي: فهم لا يَعْدُون أن يوصفوا بالإخوان في الإسلام إن لم يكونوا مواليَ أو يوصفوا بالموالي إن كانوا مواليَ بالحلف أو بولاية العتاقة وهذا استقراء تام.
والإخبار بأنهم إخوان وموال كناية عن الإرشاد إلى دعوتهم بأحد هذين الوجهين.
والواو للتقسيم وهي بمعنى أو فتصلح لمعنى التخيير، أي: فإن لم تعلموا آباءهم فادعوهم إن شئتم بإخوان وإن شئتم ادعوهم موالي إن كانوا كذلك.
وهذا توسعة على الناس.
و{في} للظرفية المجازية، أي: إخوانكم أخوة حَاصلة بسبب الدّين كما يجمع الظرف محتوياته، أو تجعل {في} للتعليل والتسبب، أي: إخوانكم بسبب الإسلام مثل قوله تعالى: {فإذا أوذي في الله} [العنكبوت: 10]، أي: لأجل الله لقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10].
وليس في دعوتهم بوصف الأخوة ريبة أو التباس مثل الدعوة بالبُنوّة لأن الدعوة بالأخوة في أمثالهم ظاهرة لأن لوصف الأخوة فيهم تأويلًا بإرادة الاتصال الديني بخلاف وصف البنوة فإنما هو ولاء وتحَالف فالحقُّ أن يُدْعَوا بذلك الوصف، وفي ذلك جبر لخواطر الأدعياء من تَبنَّوْهم.
والمراد بالولاء في قوله: {ومواليكم} ولاء المحَالفة لا ولاء العتق، فالمحالفة مثل الأخوة.
وهذه الآية ناسخة لما كان جاريًا بين المسلمين ومن النبي صلى الله عليه وسلم من دعوة المُتَبَنَّيْن إلى الذين تبنوهم فهو من نسخ السنة الفعلية والتقريرية بالقرآن.
وذلك مراد من قال: إن هذه الآية نسخت حكم التبنّي.
قال في الكشاف: وفي فصل هذه الجمل ووصلها من الحسن والفصاحة ما لا يغْبَى عن عالم بطرق النظم.
وبيّنه الطيبي فقال: يعني في إخلاء العاطف وإثباته من الجمل من مفتتح السورة إلى هنا.
وبيانُه: أن الأوامر والنهي في {اتق} [الأحزاب: 1] {ولاَ تطع} [الأحزاب: 1] {واتّبع} [الأحزاب: 2] {وتَوكل} [الأحزاب: 3]، فإن الاستهلال بقوله: {يا أيها النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] دال على أن الخطاب مشتمل على أمر معْنيَ شأنه لائح منه الإلهاب، ومن ثم عَطف عليه {ولا تطع} كما يعطف الخاص على العام، وأردَف به النهي، ثم أمَر بالتوكل تشجيعًا على مخالفة أعداء الدين، ثم عَقَّب كلا من تلك الأوامر بما يطابقه على سبيل التتميم، وعلل {ولا تطع الكافرين} بقوله: {إن الله كان عليمًا حكيمًا} [الأحزاب: 1] تتميمًا للارتداع، وعلل قوله: {واتبع ما يوحى إليك} بقوله: {إن الله كان بما تعملون خبيرًا} [الأحزاب: 2] تتميمًا، وذَيل قوله: {وتوكل على الله} بقوله: {وكفى بالله وكيلًا} [الأحزاب: 3] تقريرًا وتوكيدًا على منوال: فلان ينطق بالحَق والحقُ أبلج، وفصل قوله: {ما جعَل الله لرجل من قلبين في جوفه} [الأحزاب: 4] على سبيل الاستئناف تنبيهًا على بعض من أباطيلهم.
وقوله: {ذلكم قولكم بأفواهكم} [الأحزاب: 4] فذلكة لتلك الأحوال آذنت بأنها من البطلان وحقيق بأن يذم قائله.
ووَصل قوله: {والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل}.
[الأحزاب: 4] على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في المجمل في {ولا تطع} و{اتبع} وفَصل قوله: {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} وقوله: {النبي أولى بالمؤمنين} [الأحزاب: 6]، وهلم جرًّا إلى آخر السورة تفصيلًا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم. اهـ.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فيمَآ أَخْطَأْتُمْ به ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُورًا رَحيمًا}.
عطف على جملة {ادعوهم لآبائهم} لأن الأمر فيها للوجوب فهو نهي عن ضده لتحريمه كأنه قيل: ولا تدعوهم للذين تبنوهم إلا خطأ.
والجناح: الإثم، وهو صريح في أن الأمر في قوله: {ادعوهم لآبائهم} أمر وجوب.
ومعنى {فيما أخطأتم به} ما يجري على الألسنة خارجًا مخرج الغالب فيما اعتادوه أن يقولوا: فلان ابن فلان للدّعي ومتبنيه، ولذلك قابله بقوله: {ولكن ما تعمّدت قلوبكم} أي: ما تعمدته عقائدكم بالقصد والإرادة إليه.
وبهذا تقرر إبطال حكم التبني وأن لا يقول أحد لدَعيّه: هو ابني، ولا يقول: تبنيت فلانًا، ولو قاله أحد لم يكن لقوله أثر ولا يعتبر وصية وإنما يعتبر قولُ الرجل: أنزلت فلانًا منزلة ابن لي يرث ما يرثه ابني.
وهذا هو المسمى بالتنزيل وهو خارج مخرج الوصية بمناب وارث إذا حمله ثلث الميت.
وأما إذا قال لمن ليس بابنه: هو ابني، على معنى الاستلحاق فيجري على حكمه إن كان المنسوبُ مجهول النسب ولم يكن الناسب مريدًا التلطف والتقريب.
وعند أبي حنيفة وأصحابه من قال: هو ابني، وكان أصغر من القائل وكان مجهول النسب سنًا ثبت نسبه منه، وإن كان عبده عَتق أيضًا، وإن كان لا يولد مثله لمثله لم يثبت النسب ولكنه يعتق عليه عند أبي حنيفة خلافًا لصاحبيه فقالا: لا يعتق عليه.
وأما معروف النسب فلا يثبت نسبه بالقائل فإن كان عبدًا يعتق عليه لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب فلو قال لعبده: هو أخي، لم يعتق عليه إذا قال: لم أردْ به أخوة النسب لأن ذلك يطلق في أخوة الإسلام بنص الآية، وإذا قال أحد لدعيّه: يا بني، على وجه التلطف فهو ملحق بالخطأ ولا ينبغي التساهل فيه إذا كانت فيه ريبة.
وقوله: {ادعوهم لآبائهم} يعود ضمير أمره إلى الأدعياء فلا يشمل الأمرُ دعاء الحفدة أبناء لأنهم أبناء.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحَسن رضي الله عنه: «إنّ ابني هذا سيّد» وقال: «لا تُزْرموا ابني» أي: لا تقطعوا عليه بوله.
وكذلك لا يشمل ما يقوله أحد لآخر غير دعيٍ له: يا ابني، تلطّفًا وتقربًا، فليس به بأس لأن المدعو بذلك لم يكن دعيًا للقائل ولم يزل الناس يدعون لداتهم بالأخ أو الأخت، قال الشاعر:
أنت أختي وأنت حرمة جاري ** وحرام عليّ خون الجوار

ويَدعون من هو أكبر باسم العم كثيرًا، قال النمر بن تولب:
دعاني الغواني عَمَّهن وخلتُني ** لي اسم فلا أدعى به وهو أول

يريد: أنهن كنّ يدعونه: يا أخي.
ووقوع {جناح} في سياق النفي ب {ليس} يقتضي العموم فيفيد تعميم انتفاء الإثم عن العمل الخطأ بناء على قاعدة عدم تخصيص العام بخصوص سببه الذي ورد لأجله وهو أيضًا معْضود بتصرفات كثيرة في الشريعة، منها قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أُكرهُوا عليه».
ويفهم من قوله: {ادعوهم لآبائهم} النهيُ عن أن ينسب أحد إلى غير أبيه بطريق لحن الخطاب.
وفي الحديث: «من انتسب إلى غير أبيه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يَقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا».
ويخرج من النهي قول الرجل لآخر: أنت أبي وأنا ابنك على قصد التعظيم والتقريب وذلك عند انتفاء اللبس، كقول أبي الطيب يُرقق سيف الدولة:
إنما أنتَ والد والأبُ القا ** طع أحنَى من واصل الأولاد

وجملة {كان اللَّه غفورًا رحيمًا} [الأحزاب: 24] تعليل نفي الجناح عن الخطأ بأن نفي الجناح من آثار اتصاف الله تعالى بالمغفرة والرحمة بخلقه. اهـ.